top of page
Sarah Al Saeid

من "سوریا المفیدة" إلى "سوریا الجامعة": الثورة والمجتمع المدني في إعادة تشكیل الھویة

كثرت النقاشات حول فشل التجربة السورية، وكأن هذا الحُكم بات حقيقة قبل أن تبدأ التجربة فعليًا، فكما يقول المثل: «ما لنا بالقصر من إمبارح العصر». ونجد أن معظم الخطابات التي تناقش سوريا اليوم تقتصر على المنظور الجيوسياسي، حيث يُختزل الصراع في كونه مجرد لعبة بين القوى الدولية والإقليمية. في هذا الطرح إشكالية كبيرة، فهو يغفل التعقيدات الداخلية، ويتجاهل الدور المحوري الذي لعبه الشعب السوري في قلب هذه المعادلة.


ما يحدث في سوريا ليس مجرد مواجهة بين قوى عظمى، بل مأساة إنسانية هائلة لها أبعاد اجتماعية وسياسية عميقة. وفق تقارير الأمم المتحدة لعام 2024، ما لا يقل عن 7.4 مليون سوري ما زالوا نازحين داخل البلاد، بينما لجأ حوالي 4.9 مليون إلى دول الجوار، بما في ذلك تركيا ولبنان والأردن والعراق، إضافة إلى 1.3 مليون شخص أعيد توطينهم في أماكن أخرى، أغلبهم في أوروبا.


ومع ذلك، فإن المجتمع السوري في الشتات وبمختلف مكوناته رفض بشكل قاطع العودة إلى سوريا في ظل استمرار وجود نظام الأسد. هذا الرفض لم يكن دائمًا بسبب عوائق قانونية أو سياسية فقط، مثل مذكرات الاعتقال أو الانخراط في الحراك السياسي، بل أيضًا لأن كثيرين من السوريين في الشتات لم يعودوا يعتبرون سوريا تحت حكم الأسد دولة تخصهم أو تمثلهم. ولعل الأكثر إيلامًا هي قصص الذين عادوا دون أن يكون عليهم أي تهم، ليتم اعتقالهم أو إخفاؤهم قسرًا من قبل النظام. هذا الرفض للعودة في ظل بقاء النظام القائم كان بحد ذاته فعل مقاومة محوري، خاصة في ظل موجة التطبيع السياسي التي شهدتها العلاقات مع النظام في السنوات الماضية من قبل عدة أنظمة عربية وغربية.


التغيير في سوريا لم يكن مجرد نتيجة لحركات سياسية كبرى أو قوى عسكرية. إنه أيضًا نتاج مقاومة يومية بسيطة مارسها السوريون في الداخل والخارج. كل فعل صغير، من رسم شعار على جدار مهجور إلى تنظيم مظاهرة في المنفى، كان له دور في إضعاف النظام وخلخلة دعائمه. هذه المقاومة «المجهرية»، غير المرئية أحيانًا، لم تُضعف فقط فكرة التطبيع مع الأسد، بل عمّقت التغيير في الوعي الجمعي للسوريين منذ بداية الثورة، وزرعت شعورًا متجددًا بالمسؤولية والارتباط بوطن يتجاوز سلطة النظام.


لست هنا بصدد تقديم التجربة السورية كحالة استثنائية تمامًا، لكنها، ككل التجارب، تمتلك خصوصياتها التي تميزها. سوريا ليست مصر، ولا ليبيا، ولا تونس. أوجه الاختلاف كثيرة، وأبرزها أن الأنظمة في تلك الدول انهارت خلال فترات زمنية قصيرة نسبيًا، بينما امتدت الثورة السورية لأكثر من عقد، مما جعلها أكثر تعقيدًا وأطول أمدًا.


واليوم، ومع سقوط النظام، نقف أمام مرحلة جديدة تمامًا، حيث تتشابك الأسئلة حول الهوية، والدولة، والمستقبل. التجربة السورية لم تنتهِ، لكنها بدأت للتو.


الهوية السورية: بين التحطيم وإعادة التكوين

من أبرز القراءات التاريخية المتعلقة بالهوية العربية أن المجتمعات العربية، ومنها سوريا، لم تصل إلى حالة نضج سياسي أو هوياتي كامل بسبب انتقالها السريع من حكم استبدادي إلى آخر. مرت سوريا بمراحل متتالية من الانتداب الفرنسي الذي أعقب الحكم العثماني، إلى مرحلة البعث، مرورًا بتجربة الوحدة القومية، ثم العودة إلى هيمنة البعث تحت حكم الأسد الأب والابن. هذه المراحل لم تُنتج تراكمًا ناضجًا للهوية الوطنية، بل أفرزت قطيعات متتالية على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية.

 

أحد أبرز تجليات هذا التفتت كانت هوية البعث تحت حكم الأسد، التي ارتكزت على مبدأ «الفائدة أو الموت»، حيث لم تكن الهوية السورية سوى هوية براغماتية مرتبطة بمدى نفع الفرد أو الجماعة للنظام. هذا النهج تجلى بشكل صريح في المصطلحات التي استخدمها بشار الأسد، مثل «سوريا المفيدة» و«سوريا غير المفيدة»، وهو تعبير أطلقه عام 2016 في سياق الدفاع عن المناطق التي تُعتبر ذات أهمية استراتيجية للنظام.

 

«سوريا المفيدة» شملت المحافظات الست: دمشق، ريف دمشق، حمص، حماة، اللاذقية، وطرطوس. وُضعت هذه المناطق في مقدمة أولويات النظام، باعتبارها المعقل الأساس لسيطرته العسكرية والسياسية. أما «سوريا غير المفيدة»، وهي المناطق التي خرجت عن سيطرته في الشمال والشرق، فقد اعتُبرت عبئًا يمكن التخلي عنه أو تدميره بالكامل. هذه السياسة لم تكن مجرد استراتيجية عسكرية، بل انعكاسًا لمنطق استئصالي يعتمد على تقدير الفائدة؛ أي أن من لا يخدم النظام، سواء كفرد أو كجماعة، يتم إقصاؤه أو القضاء عليه.

 

هذا النهج عزز تعامل النظام مع الشعب السوري كأداة، فالفرد السوري تحت حكم الأسد لم يكن يُعتبر جزءًا من مشروع وطني، بل عنصرًا ضمن منظومة تخدم النظام. إذا أثبت الفرد فائدته، سواء عبر الولاء أو الخدمة المباشرة، يُسمح له بالبقاء. أما إذا خرج عن هذه المعادلة، فيُواجه بالتهميش أو الاعتقال أو القتل. هذه السياسة دمرت الهوية السورية، وحوّلتها إلى أداة فاقدة للمعنى، محصورة فقط بمن يخدم بقاء النظام.

 

سياسة الأسد هذه لم تُنتج فقط شرخًا بين النظام والشعب، بل عمّقت أزمة الهوية السورية على مستوى أوسع. فبينما كان النظام يتعامل مع سوريا كأرض تُقسم بناءً على استراتيجيات «المفيد وغير المفيد»، كان السوريون يعيدون اكتشاف معنى الوطن خارج إطار السيطرة الاستبدادية. الثورة، رغم كل آلامها وتحدياتها، أعادت تعريف سوريا بوصفها هوية جامعة تتجاوز حدود «سوريا المفيدة».


 كيف تحولت الأغاني الثورية إلى جزء من الهوية السورية

وعلى الرغم من القمع الذي هيمن سابقًا على مناطق النظام، نلاحظ اليوم ظاهرة لافتة: الشعارات والهتافات والأغاني الثورية التي رافقت الثورة على مدى أربعة عشر عامًا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الوعي الجمعي للسوريين، خصوصًا في مناطق سيطرة النظام المخلوع. ففي وقت كان مجرد التلميح إلى «اللون الأخضر» يُعدّ جرمًا لا يُغتفر، كانت هذه الشعارات والأغاني تتردد في وجدان الناس، محفورة في وعيهم قبل أن تتحقق في واقعهم الملموس. وهذا الأمر أكثر وطأة على نظام غاشم من أي تهديد مادي ملموس، لأنه يعجز عن السيطرة عليه. واليوم، نرى كيف حفظت الجماهير في مناطق سيطرة النظام السابق هذه الشعارات والأغاني عن ظهر قلب، من بدايتها إلى نهايتها. هذه الظاهرة ليست مجرد استرجاع للذكريات، بل هي دليل عميق على أن الثورة تجاوزت كونها حركة سياسية أو انتفاضة تشمل مجموعة ما معينة، بل أصبحت جزءًا من نسيج الهوية السورية الجديدة.

 

الثورة السورية، بما حملته من شعارات وأغانٍ ونداءات، أعادت صياغة مفهوم سوريا كوطن يجمع كل أبنائها، متجاوزة التصنيفات المناطقية التي سعى النظام لترسيخها لعقود. برز هذا المعنى بوضوح في كلمات الأغاني والهتافات الثورية التي حملت نداءات متبادلة بين المدن السورية، تعبيرًا عن التضامن والشراكة في النضال. لم تكن هذه الشعارات مجرد كلمات عابرة، بل عكست وعيًا شعبيًا عميقًا بسوريا ككيان موحد، يتخطى حدود «المناطق المفيدة» التي سعى النظام إلى ترسيخها.

 

في بدايات الثورة، حملت الأغاني رسائل تضامن عميقة بين المدن السورية: من درعا التي أطلقت الشرارة الأولى، إلى حمص التي واجهت القمع الوحشي بصدور أبنائها، وصولًا إلى حلب ودمشق وغيرهما. كانت الهتافات تنادي المدن واحدة تلو الأخرى، وكأنها دعوة صريحة لأبناء الوطن للالتحام مجددًا تحت راية الحرية.


حتى إدلب، التي همشها النظام لعقود وأطلق عليها لقب «المنسية» نتيجة الإهمال السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تحولت إلى رمز للوطنية الجامعة و«الأم الحاضنة للثورة». استقبلت إدلب المهجرين والمنفيين من مختلف أنحاء سوريا، ووفرت لهم ملاذًا في أقسى الظروف، لتصبح معقلًا حقيقيًا للنضال الثوري. هذا المكان، الذي كان يُعتبر هامشيًا في حسابات النظام تحت تصنيف «سوريا غير المفيدة»، بات اليوم رمزًا لروح الثورة ومركزًا لمقاومتها المستمرة. في إدلب، تجسدت سوريا المصغرة، البعيدة عن قيود النظام وسوريا الأسد.


هذا الوعي الشعبي، المتجسد في الذاكرة الجمعية للسوريين، يمثل ركيزة أساسية لإعادة تشكيل المجتمع السوري بعد سقوط النظام. يختلف هذا الوعي عن تجارب ثورات الربيع العربي الأخرى، بفضل النتاج الثقافي والبعد الاجتماعي الذي خلفته الثورة السورية وامتدادها العميق. ما شهدته الثورة، وما يتليها الآن من تحولات، ليس مجرد مراحل سياسية، بل عملية بناء ذاكرة جماعية جديدة. ذاكرة تحمل آلام سوريا وطموحاتها نحو الحرية، وتشكل حاضرها وتعيد صياغة مستقبلها بعيدًا عن رموز الماضي، مثل البزة العسكرية التي هيمنت على الدراما السورية والإشارة إلى المخابرات في كل مسلسل، وتسجيلات الأهل لمخيمات طلائع البعث. بالتالي، نحن الآن أمام مرحلة جديدة تُبنى فيها هوية سورية قائمة على الإدراك الكامل لما عايشه السوريون، وما حافظوا عليه في ذاكرتهم الجمعية طوال السنوات الأربعة عشر الماضية، ليتحول إلى أساس لتطلعاتهم نحو المستقبل.


ما يميز التجربة السورية الآن أنها، بنظري، تحمل في طياتها أول محاولة لتكوين هوية وطنية تتجاوز إرث الأنظمة الاستعمارية وما خلفته من تشوهات في بنية الدولة والمجتمع. ومع تصاعد الوعي الجمعي بالظلم الذي تعرض له المجتمع السوري، بما في ذلك الإبادة الممنهجة التي تتعرض لها غزة على يد الاحتلال الإسرائيلي المدعوم أوروبيًا وأمريكيًا، برزت أهمية دور المجتمعات العربية في مواجهة الهيمنة الغربية وإعادة بناء الوعي الجماعي في المنطقة. هذه المنهجية ليست حكرًا على سوريا فحسب، بل هي انعكاس للقوى الداخلية والخارجية، الجيوسياسية والمحلية، التي تعاني منهها المنطقة بأكملها. ونظرًا لطول الفترة الزمنية التي قضتها سوريا تحت وطأة الاستبداد وما رافقه من تحولات إقليمية ودولية، فقد اكتسبت التجربة السورية بُعدًا زمنيًا مختلفًا عن غيرها، ما جعلها أكثر تعقيدًا وأشد تأثيرًا على الواقع الإقليمي.


ومع ذلك، لا أتحدث هنا عن التأثيرات على بنية الدولة السورية ذاتها، حيث أن أطرافًا خارجية استعمارية ما تزال تحاول عرقلة عملية الانتقال وتأسيس الدولة. بل أركز على الهوية الوطنية السورية، التي وإن كانت تتأثر بالظروف المحيطة، فإنها تتشكل بشكل مختلف؛ مدفوعة برابط جمعي قوي متأصل في تجربة الألم المشتركة، بعيدًا عن السياسة بمفهومها التقليدي. 


ضمن هذا الإطار، يسير المجتمع المدني السوري، لا سيما الشبابي منه، على نهج جديد يعكس هذا الوعي المتزايد. وعلى خلاف الثورات العربية الأخرى، أدى الوضع السوري إلى إنتاج شتات غير مسبوق، ما يعكس طبيعة التحديات الجيوسياسية التي واجهتها سوريا مقارنة بغيرها من الدول التي شهدت أحداث الربيع العربي. فالتكوين المجتمعي في سوريا والوعي الشعبي كانا مختلفين بطبيعتهما، ما يجعل المقارنة بين التجربة السورية وتجارب ثورات الربيع العربي الأخرى غير دقيقة أو عادلة.


المجتمع المدني السوري قبل الثورة

قبل تأسيس «الأمانة السورية للتنمية»، لم تكن هناك أي منظمات مجتمع مدني مستقلة في سوريا. كان المجال العام خاضعًا لسيطرة الدولة بشكل كامل، حيث احتكر حزب البعث كل الأنشطة الاجتماعية والخيرية، ولم يُسمح بظهور أي منظمات تعمل بحرية بعيدًا عن رقابة السلطة. ومع صعود بشار الأسد وزوجته أسماء الأسد إلى السلطة، بدأت تظهر تغييرات طفيفة في المجال الاجتماعي، مثل توسيع نشاط الهلال الأحمر وإتاحة الكشافة لفئات أوسع من المجتمع. ومع ذلك، بقيت هذه الأنشطة تحت رقابة صارمة ضمن إطار ما يُعرف بـ «الانفتاح الموجه»، الذي سمح بمساحة محدودة من العمل المدني، دون التخلي عن قبضة النظام على المجتمع المدني.

 

كان قانون الجمعيات الصادر عام 1958 هو الإطار القانوني الذي ينظم عمل المنظمات غير الحكومية، ولكنه جعل تسجيل الجمعيات المستقلة عملية شبه مستحيلة. ومع محاولات محدودة لاختراق هذا الإطار خلال حكم الأسد، ظل النظام متوجسًا من أي نشاط مدني مستقل. نتيجة لذلك، قوبلت معظم المبادرات بالقمع بما في ذلك اعتقالات واسعة وحظر أنشطة المنظمات المستقلة، مما اضطر العديد من النشطاء للعمل ضمن المنظمات القائمة بطرق ملتوية لتجنب القمع المباشر. هذا القمع المستمر خلّف مجتمعًا مكبوتًا بلا متنفس طبيعي يتيح للأفراد تفريغ طاقاتهم أو المشاركة في صنع التغيير، ما أدى إلى توجيه النشاط الاجتماعي والطاقات الشبابية نحو قنوات يسيطر عليها النظام بالكامل. كانت الفضاءات المدنية مجرد أدوات للسلطة، مما عمّق التبعية المجتمعية للنظام وأضعف أي محاولات لبناء مجتمع مدني مستقل أو ديناميكي.


المجتمع المدني السوري: التشكّل في الشتات

أدت الثورة السورية وما تلاها من قمع ونزوح إلى تبلور مجتمع مدني سوري فريد من نوعه في الشتات. الشباب السوري، الذي عاش تجربة القمع والهجرة والشتات، وجد في هذه الظروف فرصة لبناء هوية جماعية جديدة، مستندة إلى المعاناة المشتركة والبحث عن العدالة الاجتماعية. أنتج هذا الشتات طاقات متجددة ومتنوعة، فمن اللاجئين من تهجّر وهو طفل وحمل معه فكرة الفقد والبُعد، ومنهم من كان شابًا في ساحات الاحتجاج، أو من قضى سنوات في المعتقلات، أو من فقد أسرته وأحباءه. هذه التجارب المشتركة خلقت دافعًا قويًا لدى السوريين في الشتات للانخراط في مجالات العمل المدني والثقافي والأكاديمي بمختلف تخصصاته.


ظهر المجتمع المدني السوري في دول الشتات كحالة جذابة تجمع بين الحفاظ على الهوية الثقافية والسعي إلى تأسيس مساحات للعمل الجماعي في بيئات جديدة. وقد أتاح هذا التكوين فرصة لتجاوز القيود التي فرضتها الدولة السورية سابقًا، حيث ساهمت شبكات المجتمع المدني في الشتات في إعادة تشكيل الهوية الوطنية السورية على أسس أكثر شمولًا ومرونة. أبرز ملامح هذه الهوية الجديدة هي فكرة «سوريا الجامعة»، التي تتجاوز حدود الانتماءات القومية أو الطائفية أو المناطقية، مما يجعلها حالة استثنائية في سياق التجارب العربية الأخرى.


وأخص بالذكر هنا مدينة غازي عنتاب جنوب تركيا، التي تُعد مثالًا بارزًا على تأثير الشتات السوري في إعادة تشكيل المجتمعات المضيفة. فقد أدى الوجود السوري الكبير في هذه المدينة إلى إحداث قفزة نوعية في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. أصبحت غازي عنتاب مركزًا استراتيجيًا للعديد من المؤسسات السورية والدولية، نظرًا لقربها من الحدود السورية ولتعداد اللاجئين السوريين الكبير فيها. هذا الواقع جعلها محور اهتمام عالمي، حيث تحولت إلى محطة لتحركات ميدانية تستهدف فئة الشباب السوري والعربي. من استضافة المؤتمرات الإقليمية وتنظيم المهرجانات، إلى تأسيس المؤسسات التعليمية والمجتمعية، أصبحت المدينة فضاءً حيويًا للتفاعل الثقافي والتبادل الفكري. وقد ساهم هذا الحراك في تعزيز تكوين هوية سورية جديدة تتفاعل مع محيطها بسلاسة، دون أن تفقد جذورها الأصيلة.


من «نحن الدولة» إلى «أنا الدولة»

كان بشار الأسد وأدوات نظامه يختزلون مفهوم الوطن في شخص النظام، حيث حصروا قيمة المواطن بمدى «فائدته» للسلطة. وكما قسّم الأسد سوريا إلى «مفيدة وغير المفيدة»، تعامل مع الشعب السوري بالمنطق ذاته: من كان مفيدًا لبقاء النظام حظي بمكانة، أما من لم يكن كذلك فكان مصيره الإقصاء أو التهميش أو حتى الإبادة. هذا النهج لم يقتصر على سياسات النظام فقط، بل انعكس أيضًا في سلوك وخطاب شبيحة الأسد وجيشه، الذين طالما رددوا عبارة «نحن الدولة ولاك» لتبرير جرائمهم. هذه العبارة كانت الامتداد الطبيعي لفلسفة «الفائدة أو الموت»، حيث لا مكان في الدولة لمن لا يخضع للنظام أو لا يقدم خدمة مباشرة تضمن استمرارية النظام.


لكن في المرحلة المقبلة ومع سقوط النظام، يتوجب علينا إدراك أهمية مفهوم «أنا الدولة» بدلاً من «نحن الدولة» بمعناه الحقيقي، الذي يعبر عن الشراكة في الوطن وعن ملكية كل فرد سوري لدولته ومستقبله. هذا الإدراك الجماعي سيمثل تحولًا كبيرًا؛ فبعد عقود من كبت إرادة السوريين، شعر الكثيرون للمرة الأولى بعد سقوط النظام أنهم استعادوا وطنهم.


كانت أول جملة نطقت بها، ونطق بها أصدقائي ومن حولي، هي: «صار عندنا وطن!»، في تعبير واضح عن التحرر من منطق «الفائدة» الذي طمس قيمة الإنسان السوري لعقود. فقد كنا عاجزين عن الشعور بأننا يمكن أن نقدم شيئًا لوطن لا نملكه. لذلك، لم يكن مصطلح «مزرعة بيت الأسد» وليد الصدفة، ولم تكن «سوريا المفيدة» التي صاغها الأسد مجرد تعبير سياسي، بل كان كلاهما وصفًا دقيقًا لواقع ألغى قيمة الوطن كمفهوم جامع لكل السوريين.


ولذلك، فإن «أنا الدولة» هو الوعي الذي يتجاوز فكرة التبعية، ليضع كل فرد أمام دوره المحوري في بناء الوطن. هذا الوعي كان نواة الثورة السورية منذ انطلاقتها، وتجلى بوضوح في هتافات مثل «سوريا لينا وما هي لبيت الأسد». لم تكن تلك الشعارات مجرد احتجاجات على النظام، بل إعلانًا صريحًا بأن السوريين ليسوا رعايا تحت سلطة مستبدة، بل هم أصحاب القرار في صياغة مستقبل وطنهم.


«أنا الدولة» تعني أن كل فرد سوري يمتلك إرادة ومسؤولية في بناء سوريا جديدة، حيث لا يعود مفهوم الدولة مرتبطًا بسلطة فوقية تُفرض بالقمع، ولا بمنطق «المفيد وغير المفيد» الذي هيمن على سياسات النظام. هذا التحول في الوعي يعكس الرغبة في استعادة الدولة كفضاء مشترك للجميع، تُبنى على الحقوق والواجبات المتبادلة، وليس كأداة تُصادر إرادة الشعب.


إعادة بناء سوريا تتطلب تبني هذا المفهوم كركيزة أساسية للمستقبل، حيث يصبح الأفراد محور العملية الوطنية، ويشعر كل سوري بأنه ليس مجرد جزء من وطن، بل أنه الوطن نفسه. هذا الإحساس بالمسؤولية الفردية والجماعية هو ما سيعيد لسوريا هويتها الحرة والمستقلة، بعيدًا عن هيمنة أي نظام أو وصاية خارجية.


مشروع مستمر لإعادة تشكيل الهوية السورية

التجربة السورية ليست نسخة مكررة من تجارب الربيع العربي الأخرى. إنها تجربة تحمل خصوصيتها وتعقيداتها الناتجة عن صراع طويل ومرير واجهته طوال السنوات الماضية. ما تحتاجه سوريا الآن ليس فقط الخلاص من إرث النظام السابق، بل إعادة بناء فكرة «أنا الدولة» كعملية مستمرة في التطور. فالهوية السورية ليست ثابتة، بل هي مشروع دائم يعكس تغير الظروف والتحديات.


من الخطأ اختزال التجربة السورية في التدخلات الخارجية أو مقارنتها بشكل سطحي بتحولات سياسية شهدتها ثورات عربية أخرى، مثل الانتقال من نظام حكم ديكتاتوري إلى آخر، دون الالتفات إلى الديناميكيات المعقدة التي تميز السياق السوري. هذه الديناميكيات تشمل الحراك الشعبي الداخلي، التغيرات المجتمعية، وبروز الشتات كمجال حيوي لإعادة صياغة الهوية والدولة. تجاهل هذه الأبعاد يقلل من عمق التجارب الثورية ومن الجهود التي بذلها السوريون داخل البلاد وخارجها للتعامل مع النظام وتحدياته. وأنا على يقين بأن الحراك الشبابي السوري، والمبادرات المدنية داخل وخارج سوريا، وحتى النشاط المكثف على مواقع التواصل الاجتماعي، يمثل بداية نهوض جديد. هذا النهوض يعيد تشكيل الهوية السورية كهوية جامعة ومتحررة ومحررة، قادرة على مواجهة تحديات المستقبل بروح متجددة وتضامن يتجاوز الحدود الرسمية وغير الرسمية للدولة.



Recent Posts

© 2023 by Hurriya. Powered and secured by Wix

  • Instagram
  • Grey Twitter Icon
bottom of page