top of page
Writer's pictureHurriya

خوذ بيضاء

في الفترة بين 14 و16 تشرين الأول/أكتوبر 2024 شهدت منطقة شمال غرب سوريا تصعيداً عنيفاً، حيث تزامنت عدة غارات جوية نفذتها القوات الروسية باستخدام طائرات ثابتة الجناح وصواريخ شديدة الانفجار مع هجمات أرضية من قبل قوات النظام السوري، وقد وثَّقت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 13 مدنياً، بينهم 5 أطفال، بالإضافة إلى إصابة نحو 42 آخرين بجراح متفاوتة الخطورة. إضافة إلى دمار كبير ألحقته هذه الهجمات في المنازل والمنشآت المدنية.

هجمات النظام السوري كانت عشوائية ومستمرة، استخدمت فيها المدفعية والطائرات المُسيَّرة المحملة بالمتفجرات (الانتحارية)، بينما كانت الهجمات الروسية مفاجئة ومتباعدة نسبياً. 

منذ 1 كانون الثاني/يناير وحتى 21 تشرين الأول/أكتوبر 2024، وثَّقت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 54 مدنياً، بينهم 19 طفلاً و7 نساء، جراء هجمات قوات الحلف السوري الروسي على شمال غرب سوريا.

وفي ظل هذه الهجمات الشرسة التي لا تتوقف على شمال سوريا برزت منظمة "الخوذ البيضاء" ضمن الجهات التي تقوم بجهد واضح في شمال سوريا للمساعدة في مواجهة آثار هذه المأساة.

منذ عام 2013 ومع إعلان نظام بشار الأسد وحلفائه الحرب على الشعب السوري الذي تسببت حتى اليوم بمقتل قرابة نصف مليون سوري ونزوح وتشريد أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها، شاركت الخوذ البيضاء في عمليات الإنقاذ بلا كلل مما أكسبها خبرة خلال سنوات الحرب الطويلة وجعلها تقود جهود الدفاع المدني في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة في شمال سوريا. وفي عام 2014 باتوا يعرفون باسم "الخوذ البيضاء" نسبة إلى الخوذ التي يضعونها على رؤوسهم، وتعرّف العالم عليهم بعدما تصدرت صورهم وسائل الإعلام وهم يبحثون بين الأنقاض عن أشخاص عالقين تحت ركام الأبنية أو يحملون أطفالاً ناجين من الزلزال أو ينقلون مصابين تغطيهم الدماء إلى المشافي بعد الهجمات العسكرية التي طالت مناطق سيطرة الفصائل المعارضة.

تضم منظمة الخوذ البيضاء الناشطة في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة بشمال وشمال غربي سوريا حاليا 3300 متطوع، معظمهم من الرجال، بينهم أيضا نساء يشاركن في عمليات الإنقاذ.

وفق ما أفاد محمد آل شبلي (أحد المتحدثين باسم المنظمة) لوكالة الصحافة الفرنسية، خسرت المنظمة منذ انطلاقتها 300 متطوع قتلوا خلال سنوات الحرب، 4 منهم خلال الزلزال.

تتخذ المنظمة من الآية القرآنية في سورة المائدة (32)  "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" شعاراً لهاً. وتشدد في الوقت ذاته على أن يخاطر متطوعيها بحياتهم "لمساعدة أي شخص بحاجة للمساعدة بغض النظر عن انتمائه الديني أو السياسي".

وأكد رئيس منظمة "الخوذ البيضاء" رائد صالح في حديثه لوكالة الصحافة الفرنسية في وقت سابق حيادية المنظمة، وقال "نحن مستقلون، حياديون وغير منحازين، لسنا مرتبطين بأي جهة سياسية أو مجموعة مسلحة".

من أكبر التحديات التي واجهتها الخوذ البيضاء كان في شباط 2023 بعد الزلزال المدمّر  بقوة 7.7 درجات الذي ضرب شمال غرب سوريا وجنوب شرق تركيا وتلته عدة هزات ارتدادية، مما أسفر عن مقتل الآلاف وإصابة الكثيرين في المنطقة، حيث تجاوز عدد ضحاياه في سوريا حاجز الأربع آلاف شخص فيما وصل عدد المصابين إلى أكثر من ذلك.

وهناك وجدت فرق الإنقاذ نفسها في ظروف صعبة نتيجة هول الكارثة. لكنهم نجحوا في إنقاذ من تسنى لهم إنقاذه خلال الأيام الاولى وانتشال جثامين الضحايا الذين انهارت بهم منازلهم. فقد نشرت منظمة الخوذ البيضاء متطوعيها في مناطق الشمال السوري، خصوصا المناطق الحدودية مع تركيا، ليعملوا بلا توقف وبما توفر لديهم من معدات بسيطة أو بمؤازرة سكان يستخدمون المعاول وحتى الأواني المنزلية لإنقاذ أحبائهم.

فلم يكن من المتوفر في المنطقة -التي تعتمد بشكل أساسي على المساعدات- إمكانيات للاستجابة الفعالة السريعة لأضرار الزلزال، مما أخر عمليات البحث عن ناجين.

دمر الزلزال وفق حصيلة أولية أكثر من 400 مبنى بشكل كلي وأكثر من 1300 بشكل جزئي، كما تسبب بمقتل أكثر من 4500 شخص في مناطق سيطرة المعارضة من أصل أكثر من 6000 في سوريا، وانتشرت فيديوهات لمئات متطوعي الدفاع المدني وهم يبحثون في محافظتي إدلب (شمال غرب) وحلب (شمال) عن ناجين تحت أنقاض أبنية انهارت كليا أو جزئيا، ويسعفون الجرحى وينقلون حتى الموتى من المستشفيات إلى المقابر. لم تكن تلك المرة الأولى التي تواجه الخوذ البيضاء هذا النوع من الكوارث فلا يزال العالم يذكر الهجمات الكيماوية التي قام بها النظام السوري على الغوطة الشرقية وما تلاها من مجازر وقد لعبت المنظمة دوراً كبيراً في عملية التوثيق إضافة لجهودها في عمليات الإنقاذ وقادت جهوداً كبيرة لإدانة النظام في المحافل الدولية باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد الشعب السوري وهذا ما أثار حفيظة روسيا الداعم الأكبر لنظام بشار الأسد دولياً وجعلها تعيق حضور الدفاع المدني السوري المعارض «الخوذ البيضاء» المؤتمر السنوي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية -OPCW الدولية في لاهاي بهولندا. وقادت الدبلوماسية الروسية حملة علاقات عامة ضد مشاركة أي منظمة غير حكومية سورية أو منظمة مجتمع مدني سوري في المؤتمرات السنوية التي يجري فيها مشاركة المنظمات غير الحكومية والمستقلة من مختلف دول العالم. وتستند تقارير المنظمة الدولية الخاصة أو العامة الدورية إلى تقارير المنظمات غير الحكومية. وساندت الصين وإيران وعدد من الدول المحسوبة على المحور الروسي الجهود ضد منع قبول مشاركة «الخوذ البيضاء» السورية بعد أن تقدمت بطلب رسمي لحضور المؤتمر الذي انعقد نهاية تشرين الثاني (نوفمبر).

دفع الاعتراض الروسي الشديد في أروقة المنظمة الدولية عدداً من الدول وعلى رأسها كندا وبريطانيا إلى محاولة عدم إثارة غضب روسيا والصين، وخطت الدولتان بيان إدانة لمنع روسيا مشاركة المنظمات غير الحكومية في المؤتمر، من بينها «الخوذ البيضاء». وانضمت خمسون دولة إلى الدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أغلبها دول الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الإكوادور وهندوراس وتشيلي وكولومبيا وكوستاريكا.وفي بيان رسمي أصدرته «الخوذ البيضاء»، رحبت المنظمة السورية بالبيان الصادر عن 52 دولة عضو في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وقدمته كندا. وقال البيان «يخطئ القتلة ومن يدعمهم عندما يظنون أنهم بإعاقة الخوذ البيضاء من الوصول إلى مؤتمر منظمة الأسلحة الكیمیائیة، بأنهم يمنعون صوت الحقيقة».

وأضاف «إن هذا المنع استهدف بطريقة مباشرة إزاحة مشاركة الخوذ البيضاء ومنظمات غير حكومية داعمة لجهود منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في المؤتمر على نحو يقوض مساهمتها ويعيق دورها الفاعل في دعم جهود منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في سوريا، والذي كان وما زال يقدم الأدلة والحقائق على الهجمات الكيميائية المرتكبة داخل الأراضي السورية».

وأشار البيان إلى أن المنظمة استجابت «لأكثر من 50 هجوماً كيميائياً في جميع أنحاء سوريا، وقدمت الإسعافات الأولية للضحايا، كما وثقت تلك الهجمات وزوّدت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بأكثر من 100 عينة كأدلة على الهجمات. إضافة لذلك قدّم العديد من متطوعيها شهادات باعتبارهم مستجيبين أوائل للهجمات وكذلك ضحايا لها، وتمت الإشارة إلى الأدلة المقدمة في العديد من تقارير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية».


ووصفت «الخوذ البيضاء» رفض مشاركتها ومشاركة منظمات أخرى غير حكومية في مؤتمر الدول الأعضاء، بأنه «إجراء سياسي بحت، لا يستند لأي إطار قانوني أو أساس مهني، ويتنافى بشكل كلي مع قيم ورؤية منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي دعت لتشكيل منصة تحالف اتفاقية الأسلحة الكیمیائیة، بهدف التعبير عن جميع الفعاليات والجهود المدنية في مسار الحد من انتشار الأسلحة الكيميائية، وتخليد أحزان الضحايا والسير قدماً بطريق العدالة والمساءلة».رغم سنوات من العمل الإنساني لا زالت منظمة الخوذ البيضاء تتعرض لانتقادات قاسية من قبل النظام السوري وأنصاره الذين يتهمونها بأنها "أداة" في أيدي المانحين الدوليين والحكومات الداعمة للمعارضة السورية، فقد اتهم بشار الأسد المنظمة بأنها جزء من تنظيم القاعدة، ولم ينقطع ذكر اسم منظمة "الدفاع المدني السوري" (الخوذ البيضاء) على لسان المسؤولين الروس العسكريين والسياسيين، منذ تدخل موسكو العسكري في سوريا، وكال هؤلاء الاتهامات وقادوا "حرب تضليل" بكل معنى الكلمة ضدها، وصولاً إلى القول إن مقاتلين وجهاديين منضوون في صفوفها.

وكان من اللافت اتجاه المسؤولين الروس لاستنساخ هذه الحرب في أوكرانيا، ولاسيما في المحطات التي راح فيها ضحايا مدنيون، ولاحت فيها رائحة "جرائم حرب". 

ففي أواخر شهر أبريل 2022، أي بعد شهرين من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا خرج نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، بتصريح ملفت، محذراً "من خطر تدبير نظام كييف برعاية الغرب استفزازات، باستخدام أسلحة الدمار الشامل ولاسيما الكيماوية في أوكرانيا". 

وقال في ذات السياق: "المشرفون على نظام كييف يحضرون سيناريو مماثلا لأوكرانيا"، وإن "الخوذ البيضاء وصلوا إلى أوكرانيا"، حسب تعبيره. 

وفي تصريح آخر للجنرال إيغور كيريلوف، قائد قوات الدفاع الإشعاعي والكيماوي والبيولوجي الروسية، في أغسطس الماضي، قال إن "تقنيات حرب المعلومات، على غرار استفزاز القنبلة القذرة التي أعدتها كييف، قد تم استخدامها بالفعل في سوريا بمشاركة الخوذ البيضاء". 

وما بين هذين التصريحين كانت هناك أخرى خاصة بسوريا، استمرت فيها موسكو بتوجيه الاتهامات للمنظمة الإنسانية، لتقول بأنها "تحضّر لاستفزازت كيماوية" في مناطق شمال غربي البلاد.  

ومن الملاحظ أن أي عملية عسكرية جوية تقوم بها روسيا يسبقها تصريحات من هذا القبيل. 


يتركز عمل "الدفاع المدني السوري" بشكل أساسي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري. حالياً في الشمال السوري، وقبل ذلك نشطت فرقه في محافظة درعا وريف محافظة حمص وسط البلاد، وإلى الشرق من العاصمة دمشق، حيث الغوطة الشرقية. 

وتأتي أهمية هذا العمل على مستويين الأول "ميداني" من خلال المساعدات الإنسانية وعمليات الإسعاف الفوري لضحايا القصف ونقل المصابين إلى المشافي الميدانية، والآخر "توثيقي" للجرائم الحاصلة، حيث كان متطوعو "الخوذ البيضاء" شاهدين على القصف الكيماوي الذي استهدف الغوطة الشرقية، عامي 2013 و2018، إضافة إلى القصف بالغازات السامة على مدينة خان شيخون بريف إدلب، في 2017، والكثير من حوادث القصف التي تم تنفيذها بأسلحة أخرى في سوريا. 

وتم توثيق أغلب "الاستجابات" عبر كاميرات مثبتة على خوذ المتطوعين، لذا تمتلك هذه المنظمة الإنسانية توثيقا لأغلب الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها كل من النظام السوري وروسيا حليفته. 

ومؤخراً تطور عملهم إلى مشاريع خاصة بـ"التعافي المبكر".


ومن الملاحظ أن الحرب الإعلامية التي شنتها روسيا على الخوذ البيضاء بدأت تظهر بشكل واضح مع تبلور دورها وتحولها إلى مؤسسة في نهاية عام 2014. 

وبعد هذا العام مع بدء توسع أعمالها وانتشارها بأغلب المناطق السورية، بدأت حرب التضليل الإعلامي تلك تأخذ منحىً منهجياً ومدروساً من قبل روسيا، لا سيّما مع تدخلها العسكري المباشر والمعلن لدعم نظام الأسد في قتله السوريين في سبتمبر عام 2015

وبالنظر إلى الاتهامات الروسية المتكررة يمكننا الإشارة إلى 3 أنواع من هذه التضليلات:

التضليل الأول: إيقاعي، أي يسير وفق رتم ولا يرتبط بأي عامل آخر، مجرد تكرار للكلام الكاذب. وتحضر في هذا النوع نظرية جوزيف غوبلز، بوق الإعلام النازي وذراع هتلر القمعية ضد حرية الفكر والتعبير: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس. وروسيا والنظام لا يختلفون بشيء عن النازية.

أما النوع الثاني من "التضليل" فيرتبط بأحداث مباشرة كتحقيقات دولية أو جلسات لمجلس الأمن حول سوريا، أو ظهور أدلة جديدة تدين النظام وروسيا، أوالتغطية على موضوعات مهمة في الشأن السوري، لحرف البوصلة عنها ومحاولة تبرئة النظام السوري من أي تهمة يتداولها الإعلام. 

والنوع الثالث وهو الأخطر على حياة السوريين، ترويج روسيا قبل شنها أي هجوم قاتل على المدنيين بأن جهات أخرى تجهز لهذا الهجوم. 

ومحاولة تشويه صورة متطوعي الخوذ البيضاء تلك طوال سنوات هدفت لرسم صورة ذهنية سلبية، لقطع الطريق أمام وصول الوثائق التي تملكها المؤسسة إلى المحافل الدولية. 


في عام 2016 تم ترشيح منظمة الخوذ البيضاء لنيل جائزة "نوبل" للسلام، وإن لم تحصل عليها فقد حصلت في العام ذاته على جائزة المنظمة السويدية الخاصة "رايت لايفليهود" (Right Livelihood) السنوية لحقوق الإنسان التي تعد بمثابة "نوبل بديلة"، والتي أشادت "بشجاعة متطوعي المنظمة الاستثنائية وتعاطفهم والتزامهم الإنساني لإنقاذ المدنيين من الدمار الذي تسببه الحرب".

وفي فبراير/شباط 2017 نال فيلم وثائقي عرضته شبكة نتفليكس  يتحدث عن عملهم جائزة "الأوسكار" عن أفضل وثائقي قصير.ستبقى الخوذ البيضاء فخر لكل سوري, فهي بالنسبة للكثير من السوريين: أفضل ما أنتجت الثورة السورية، ونموذج يقتدى به لبناء مؤسسسات الدولة في مرحلة سوريا ما بعد الأسد، بما تتمتع به هذه المؤسسة من نظام داخلي واضح وأهداف معلنة وآليات محاسبة، إضافة لما يتمتع به متطوعيها من أخلاق عالية أكسبتهم قبول الشارع السوري.

وسيبقى أصحاب القبعات البيضاء أحد أركان الثورة السورية وسبب أساسي في استمرارها، وانعكاس لصمود الشعب السوري أمام همجية النظام ورعاته ونفاق العالم وكذبه. الأسد يوزع الموت بأسباب مقدرة، وهم يحيون الأرواح بأطواق النجاة وكثيرًا ما تكون حياتهم جزءًا من ذلك الطوق. ليمثلوا ويستحقوا شعارهم: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.


Recent Posts

bottom of page